إسرائيل- الاستعمار الأوروبي الأخير ومستقبل الصراع الفلسطيني

من المؤكد أننا مطالبون بتكريس كافة جهودنا لوقف المذابح المروعة في غزة والضفة الغربية، ودعم صمود المقاومة بكل السبل المتاحة، والتصدي بكافة الوسائل الممكنة لكافة الحلول المخذلة التي تحرم الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة. هذا يستلزم منا أن نكون حاضرين بكل قوانا الذهنية والبدنية، وأن نتعامل بفاعلية مع التقلبات المتسارعة للأحداث، مع إدراك اللحظة الراهنة بكل تعقيداتها.
ومع ذلك، فمن الضروري بمكان، في هذا السياق، أن نتبنى رؤية استراتيجية عميقة وفهمًا دقيقًا لطبيعة هذا الصراع المعقد. هذا هو الشرط الأساسي لاستشراف المستقبل، والاستعداد لمواجهة الخيارات الصعبة التي تمليها هذه المأساة المستمرة منذ قرن على جميع الأطراف المعنية.
(1)
أول ما ينبغي التركيز عليه لفهم الماضي والتأهب للمستقبل هو العودة إلى سؤال قد يبدو بسيطًا للوهلة الأولى: ما هي حقيقة إسرائيل؟
ليس من قبيل المصادفة المحضة أن تُصنف هذه الدولة ضمن المنطقة الأوروبية عندما يتعلق الأمر بالمنافسات الرياضية والفنية، أو الانضمام إلى المنظمات الأممية.
ليس من محض الصدفة أن الدولة التي أدت إلى ولادة هذا الكيان كانت دولة أوروبية عريقة: بريطانيا العظمى.
ليس من باب الصدفة أن الدولة التي تبرر وجود هذا الكيان أخلاقيًا بالاستناد إلى الفظائع التي ارتُكبت في حق اليهود هي دولة أوروبية: ألمانيا.
ليس من قبيل الصدفة أن الدولة التي يسرت حصول هذا الكيان على السلاح النووي هي دولة أوروبية: فرنسا.
ليس من محض الصدفة أن واضع المشروع الصهيوني، تيودور هرتزل، لم يكن يهوديًا مغربيًا أو يمنيًا أو حبشيًا، بل كان أوروبيًا خالصًا.
ليس من قبيل المصادفة أن حكام هذا الكيان حتى يومنا هذا هم من أصول أوروبية عريقة.
ليس من محض الصدفة أن دولًا أوروبية كبرى تهرع لنجدة إسرائيل كلما دخلت في خضم حرب: من التدخل البريطاني الفرنسي السافر سنة 1956، وصولًا إلى مساهمة الدولتين الفعالة في صد الصواريخ الإيرانية في حرب 2025.
لهذا، ليس من المجحف بحال القول إنه كما أن الشعب الفلسطيني هو آخر شعوب العالم التي ترزح تحت نير الاستعمار، فإن إسرائيل هي آخر المستعمرات الأوروبية المتبقية في هذا العصر الحديث.
(2)
من أجل فهم هذا المستوى العميق لطبيعة دولة إسرائيل، يجب العودة إلى قصة الاستعمار الأوروبي للعالم، والتذكير بخصائصه ودوافعه المتجذرة.
شهدت أوروبا، وبوجه خاص منذ القرن السادس عشر، توسعًا هائلاً على حساب جميع شعوب العالم، وذلك بفضل التفوق العسكري والصناعي والسيطرة على تقنيات الملاحة بعيدة المدى. لقد كانت سياسات استعباد الشعوب الأضعف والاستيلاء على أراضيها وخيراتها سياسات مُحكمة تقودها الدول الأوروبية الأقوى. ومن أهم هذه المراحل:
- الاستعمار البرتغالي: انطلاقًا من عام 1415 باحتلال مدينة سبتة المغربية، وصولًا إلى احتلال ماكاو الصينية سنة 1556، مرورًا باحتلال البرازيل سنة 1500.
- الاستعمار الإسباني: انطلاقًا من وصول كريستوفر كولومبوس سنة 1492 إلى جزر الكاريبي، وصولًا إلى احتلال الفلبين سنة 1565، مرورًا باحتلال المكسيك سنة 1519 وبيرو سنة 1532.
- الاستعمار الهولندي: انطلاقًا من تأسيس مدينة كايب تاون سنة 1602، وصولًا إلى احتلال جزر التوابل (إندونيسيا اليوم) سنة 1641، مرورًا باحتلال شبه جزيرة مانهاتن في أميركا سنة 1626.
- الاستعمار البريطاني: انطلاقًا من تأسيس أول مستعمرة على الشاطئ الشرقي لأميركا سنة 1585، وصولًا إلى احتلال الهند سنة 1758، ومصر سنة 1882، مرورًا باستعمار أستراليا سنة 1788.
- الاستعمار الفرنسي: انطلاقًا من "اكتشاف" كندا سنة 1534 إلى احتلال المغرب سنة 1912، مرورًا باستعمار الجزائر سنة 1830 والهند الصينية سنة 1885.
- الاستعمار الألماني: الذي احتل توغو، الكاميرون، ناميبيا، تنزانيا من 1884 إلى 1919.
ما لا يتم التركيز عليه بشكل كافٍ هو أن الاستعمار، وإن كان سياسة دول تهدف إلى امتلاك المزيد من الموارد والقوة السياسية، فإنه كان أيضًا مشروعًا لشرائح مجتمعية استغلت الفرص التي كانت توفرها الدولة الاستعمارية لتحقيق مصالحها الخاصة ولأسباب ذاتية.
خذ على سبيل المثال هجرة البيض إلى جنوب أفريقيا في بداية القرن السابع عشر، والذين عُرفوا تحت اسم البوير (Boers).
اعتُبرت هجرة الإنجليز إلى أميركا الشمالية، والذين عُرفوا تحت اسم البيوريتانيين (Puritans)، إلى ولاية ماساتشوستس في أميركا سنة 1620.
أو هجرة من عُرفوا باسم الكويكرز (Quakers) إلى ولاية بنسلفانيا سنة 1650.
أو هجرة الألمان والسويسريين الذين عُرفوا تحت اسم الأميش (Amish) إلى ولاية بنسلفانيا سنة 1720.
أو هجرة من عُرفوا باسم المورمون (Mormons) إلى وسط جنوب الولايات المتحدة سنة 1840.
بتفحص دقيق لهذه الهجرات، ستجد أنها تشترك في قواسم مشتركة:
- نفس الظروف الاجتماعية والدينية والسياسية المحفزة للهجرة؛ أي الاضطهاد الديني والسياسي والتهميش الاقتصادي والاجتماعي لشريحة اجتماعية محددة.
- نفس اليوتوبيا بتحقيق المدينة الفاضلة في مكان ناءٍ من العالم، ونفس الاعتماد على نصوص مقدسة قديمة تعد بإمكانية تحقيق مثل هذا الأمر.
- نفس الشعور بالاصطفاء والتفوق الأخلاقي والروحي والانتماء إلى الفرقة الناجية.
- نفس استغلال التفوق التكنولوجي والعسكري للدول والأنظمة التي يُراد إعطاء الظهر لها، طالما أنها توفر إمكانات تحقيق الحلم وحتى الاحتماء بها عندما يتطلب الأمر.
- نفس الازدراء والتجاهل للشعوب التي يُراد الاستيلاء على أراضيها لبناء المدينة الفاضلة المنشودة.
لا بد من قدر كبير من التعامي المتعمد لعدم ملاحظة أوجه التشابه الكثيرة بين هذه الهجرات والمشروع الصهيوني برمته.
كأنك تسمع هرتزل وأتباعه يقولون بلسان واحد: نحن أيضًا، نحن الأوروبيون اليهود، نريد نصيبنا من الوليمة الاستعمارية بعد أن استأثر بها الأوروبيون المسيحيون وحدهم.
(3)
لا جدال بحال في كون دولة إسرائيل وليدة الاستعمار الأوروبي، شأنها في هذا شأن نيوزيلندا أو أستراليا.
ومع هذا، يشكل دحض هذه الحقيقة الساطعة جزءًا كبيرًا من مخزون حرب السرديات، حيث يبذل الصهيونيون جهودًا مضنية لتسويق ثلاث حجج واهية، هدفها نزع صفة الاستعماريين عنهم:
1- الإسرائيليون ليسوا دخلاء، وإنما هم أحفاد السكان الأصليين لتلك الأرض
إنها حجة فندها المؤرخ الإسرائيلي البارز شلومو ساند، الذي أثبت بالأدلة القاطعة أن جميع العبرانيين لم يهاجروا إثر تدمير الهيكل سنة 70 بعد الميلاد، وأن الفلسطينيين هم الأحفاد الذين تمازجوا مع الفاتحين العرب. وفي جميع الأحوال، فإن من يبقى متشبثًا بأرضه ثلاثة آلاف سنة هو الأجدر بها ممن غادرها طوال ثلاثة آلاف سنة. ويا له من سخف القول بأن أفارقة إثيوبيا وأمازيغ المغرب وصقالبة الروس هم أحفاد العبرانيين الذين تركوا ديارهم، وأن لهم الحق المطلق في العودة إليها.
2- إسرائيل ليست مُشكَّلة فقط من يهود أوروبا، فنصف سكانها اليوم هم من يهود البلدان العربية وإيران وحتى إثيوبيا.
نعم هذا صحيح، ولكن الاستعمار الفرنسي للجزائر لم يكن حكرًا على الفرنسيين الخُلَّص، فقد فُتح الباب للإيطاليين والإسبان والمالطيين وحتى لليهود، الذين مُنحوا الجنسية الفرنسية، ولكن هذا الكرم الظاهر، الذي كان في الواقع يخدم المصلحة الاستعمارية، أبقى مقاليد السلطة في أيدي الفرنسيين الأصليين. والأمر ذاته يتكرر اليوم، حيث السلطة في إسرائيل هي بأيدي يهود أوروبا وأميركا، أما البقية فهم مواطنون من درجة أدنى.
3- لا وجود لوطن يمكن العودة إليه، كما كان الحال بالنسبة للمستعمرين الفرنسيين في الجزائر، أو الإيطاليين في ليبيا.
نعم، ولكن ثلث الإسرائيليين يحتفظون بجوازات سفر بلدانهم الأصلية. أضف إلى هذا أن بيض جنوب أفريقيا قطعوا كل صلة بهولندا، ولم يمنعهم ذلك من التصرف كمستعمرين طوال أربعة قرون كاملة، إلى حين سقوط نظام الفصل العنصري البغيض.
يبقى أن هذا الصراع النظري المتداول منذ قرن من الزمان يسقط أمام حجة الحجج القاطعة، ألا وهي ما نراه اليوم بأم أعيننا في الضفة الغربية المحتلة: قتل وطرد السكان الأصليين والاستيلاء على أراضيهم علنًا وجهرًا، أي الاستعمار في أجلى وأقبح صوره.
ليسمح لي المرء هنا بأن أعرب عن استغرابي الشديد من استعمال المحللين كلمات "مستوطنين" و"مستوطنات" و"استيطان". انظروا كيف تستعمل اللغة الفرنسية الكلمات الصحيحة: (Colons) أي مستعمرون، و(colonisation) أي استعمار، و(colonies) أي مستعمرات. الرجاء من الصحفيين والكتاب استعمال الكلمات الصحيحة، بغض النظر عن كوننا نلحق الضرر بقضيتنا العادلة باستعمال المصطلحات المضللة والمخادعة.
(4)
لماذا يجب وضع الظاهرة الاستعمارية الإسرائيلية في إطارها الزمني الواسع وربطها بجذورها الأوروبية؟ لأن قراءة التاريخ الطويل هي التي تمكننا من تصور مستقبلها على ضوء التجارب الاستعمارية المماثلة على مدى القرون الأربعة الأخيرة من التوسع الأوروبي الشرس.
لقد شهدت هذه التجارب الاستعمارية ثلاثة أنواع من النهايات الممكنة:
- النجاح المطلق: أي التمكن النهائي من الأرض وفرض الإرادة المطلقة على سكانها الأصليين، وهذا ما تجسد في النموذج الاستعماري البريطاني في أميركا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
- الفشل المطلق: أي استقلال المستعمرات وعودة المستعمرين من حيث أتوا، وهذا ما حدث في النموذج الاستعماري الإيطالي في ليبيا، أو الفرنسي في الجزائر، أو الألماني في ناميبيا، أو الهولندي في إندونيسيا.
- النجاح النسبي: أي البقاء على الأرض مع تحمل كلفة التعايش وحتى التشابك مع السكان الأصليين، وهذا ما تجسد في النموذج الاستعماري الهولندي الإنجليزي في جنوب أفريقيا.
أي من هذه المصائر الثلاثة ينتظر آخر مستعمرات أوروبا في هذا العالم؟
من الصعب للغاية الإجابة على هذا السؤال، لأن هذه التجربة الاستعمارية لا تزال مستمرة، وقد يتعين علينا انتظار قرن آخر كامل للحكم عليها بشكل قاطع.
ولكن يمكننا استعراض شروط النجاح المطلق لكل مشروع استعماري، لكي نرى ما إذا كانت إسرائيل تستوفي هذه الشروط، ومن ثم علينا التسليم بعبثية كل جهد يهدف إلى استئصالها. وما يثبته التاريخ بوضوح هو أن هذا النجاح يتطلب:
1- إبادة الشعب المستعمَر أو تقليص عدده إلى حد يجعله لا يشكل خطرًا على المستعمرين، وذلك بفضل الهوة التكنولوجية الهائلة، أي العسكرية، بين الغزاة والسكان الأصليين، وأيضًا بفضل كمية الفيروسات والجراثيم غير المعروفة عندهم، ومن ثم غير المحصنين ضدها. فالشعوب الأولى في أميركا وأستراليا أُبيدت بالكامل تقريبًا، ليس فقط برصاص البنادق والمدافع الرشاشة، وإنما أيضًا بسبب الحصبة والسل والجدري.
هذا هو نموذج النجاح الاستعماري الإنجليزي في أميركا وأستراليا.
هذان العاملان الرئيسيان غائبان تمامًا في القضية الفلسطينية، حيث نزل المستعمرون الأوروبيون اليهود في أرض شعب عريق في الحضارة وفي فنون الحرب، والفرق بين المستوى التكنولوجي، أي العسكري، بين الغزاة والمغزوين لا يُحسب بالقرون، كما كان الحال بين المستعمرين الأوروبيين المسيحيين وسكان أستراليا أو كندا، بل بالعقود على أقصى تقدير ممكن.
وأيضًا لم تلعب الجراثيم والفيروسات أي دور يُذكر، بما أن المستعمِرين والمستعمَرين ينتمون إلى نفس الفضاء الجغرافي الكبير الذي تشكلت فيه نفس المناعات تقريبًا. أضف إلى هذا أن الشعب الفلسطيني لم يكن شعبًا معزولًا يمكن الانفراد به، وإنما كان جزءًا لا يتجزأ من أمة عظيمة، حتى ولو كانت في حالة عجز وتفكك، وبالتالي يشكل هذا عاملًا آخر يمنع تحقيق النصر المطلق للمستعمرين.
2- وجود قاعدة خلفية قوية تمد المستعمرين بالدعم اللوجيستي المطلوب، إلى حين الوصول إلى لحظة القدرة على الاستقلال التام عن الوطن الأم، كما هو الحال في الولايات المتحدة أو أستراليا كمثالين واضحين.
المشكلة بالنسبة لإسرائيل هي أن أوروبا اليوم ليست أوروبا القرنين الأخيرين، وذلك لعدة أسباب جوهرية، منها:
- أن الطفل المدلل أصبح عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا ثقيلاً عليها، إذ يشوش على علاقات حيوية مع العالم العربي، ولن تضحي بتلك العلاقات الحيوية من أجل مغامرة غير مضمونة العواقب، وهو ما حدث بالفعل مع جنوب أفريقيا في سبعينيات القرن الماضي.
- أن الأجيال الأوروبية الجديدة تتوزع على مسارين سياسيين، ولا واحد منهما مع مواصلة دعم الكيان الاستعماري. فالمسار الذي يمكن وصفه باليساري أو التقدمي أو الديمقراطي قطع نهائيًا مع خوارزميات التفكير الاستعماري للآباء والأجداد، ويريد أن تكون أوروبا قلعة حصينة للديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا مجال في خيار كهذا لمساندة دولة تعتبر من مخلفات الحقبة الاستعمارية البائدة.
أما التيار الشعبوي اليميني المتطرف، فهو يكره بني إسرائيل بنفس القدر الذي يكره فيه بني إسماعيل، وهدفه ليس العودة إلى الاستعمار أو مساندة أشلائه في العالم، وإنما، وكما قال أحد البريطانيين المحتجين على عدد الهنود والباكستانيين في بريطانيا، "منع أوروبا من أن تُستعمر من قبل مستعمراتها السابقة".
- أما بخصوص الدعم الأميركي السخي، فهو الآخر إلى زوال، سواء طال الزمن أو قصر، ليس فقط للأسباب التي تعرفها أوروبا، وإنما لسبب أعمق وأكثر تجذرًا. فلا أحد يستطيع فهم ظاهرة ترامب واحتدام جذوة اليمين المتطرف في أميركا، ما لم يستحضر حقيقة أن نسبة الأميركيين البيض من أصول أوروبية ستنخفض إلى النصف قبل عام 2050.
مما يعني بشكل جلي أن الأجيال القادمة من الأصول الأفريقية واللاتينية والآسيوية، والتي ستقود أميركا في المستقبل، لا علاقة لها إطلاقًا بالأساطير الدينية عن الشعب المختار والمهمة الإلهية المزعومة والأرض الموعودة، وكل هذا "الخَرْم" الأيديولوجي الذي تجده وراء تماهي الأجيال الأميركية القديمة مع المشروع الصهيوني.
- أضف إلى ذلك الكلفة المباشرة للدفاع عن دولة مارقة تتحدى كل القوانين الدولية، والكلفة غير المباشرة، أي خسارة المصالح مع عالم عربي قد لا يكون هو الذي تعود عليه قادة أميركا في حقبة ما قبل التحول الديموغرافي والإثني العميق.
ربما الأهم من كل هذا هو تقلص دعم الحاضنة اليهودية بكل ما تملك هذه الحاضنة من قوة الدعم المعنوي والإعلامي والمالي والنفوذ السياسي الواسع.
وما يثلج الصدر هو التوجه الفكري المتنامي اليوم داخل عدد متزايد من يهود العالم، والقائل بأن إسرائيل تشكل خطرًا حقيقيًا عليهم، لأنها تتغذى من معاداة السامية، ولكنها تغذيها في نفس الوقت بسياساتها الوحشية تجاه الفلسطينيين. أضف إلى هذا حقيقة أنها تشكل خطرًا على اليهودية نفسها، بما هي ديانة مبنية ككل الديانات على قيم إنسانية سامية، إذ تنسف الصهيونية بجرائمها المروعة كل هذه القيم.
الخلاصة الرئيسية هي أن عوامل الإسناد الخارجي للمستعمر الصهيوني مُؤهلة، على المدى المتوسط والبعيد، للتقلص التدريجي، وربما حتى للانقلاب التام على هذا المشروع الاستعماري برمته، ما يفاقم -وبكيفية رهيبة- كل أخطار تفككه ونهايته المحتومة.
لا إمكانية إذن للمشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين أن ينتهي بنفس النجاح المطلق الذي عرفه المشروع الاستعماري الغربي في أميركا وأستراليا.
ماذا عن إمكانية النجاح النسبي، أي بقاء المستعمرين على الأرض التي استعمروها، مع إيجاد نوع من التعايش مع السكان الأصليين بعد اتضاح استحالة إبادتهم بالكامل؟ والنموذج هنا هو دولة جنوب أفريقيا الحالية، وإلى حد ما دولة نيوزيلندا، حيث لم يُبَد شعب الماوري، وهم الآن بصدد استرجاع بعض الحقوق المغتصبة.
للأسف الشديد، لا توجد أي من الشروط الضرورية لتحقيق هذا السيناريو، فالمستعمرون حاليًا - ويجب وضع أكثر من خط أحمر تحت كلمة "حاليًا" - يرفضون بشكل قاطع كل الحقوق السياسية للسكان الأصليين، ولا يرضون منهم إلا الخضوع للحصار الأزلي في غزة، ولنظام الأبارتايد البغيض في الأراضي المحتلة سنة 1948، ولسلب أراضيهم وتهجيرهم "الطوعي" في الضفة الغربية.
ما الذي يبقى من السيناريوهات الثلاثة الممكنة؟ طبعًا سيناريو الفشل المطلق، أي نهاية آخر المستعمرات الأوروبية في القرن الواحد والعشرين، كما انتهت جلّ مستعمراتها الأخرى في القرن العشرين.
(5)
مهلًا، يجب قبل الوثوب إلى هذا الاستنتاج المتسرع تفحص وتقييم استراتيجيات هذه المستعمرة لفرض مفهومها الخاص للنجاح، لأن التاريخ لم يستنفد بعد كل ما في جعبته من إمكانات ومفاجآت.
هذه الاستراتيجيات معروفة في خطوطها العريضة، ويمكن تسميتها "الحل حسب نتنياهو"، وتشمل خياراته الأساسية التالية:
- منع قيام أي دولة فلسطينية بكل الوسائل الممكنة، وفي أسرع وقت ممكن، وذلك عن طريق تمزيق أوصال الضفة الغربية وإفراغ غزة من سكانها الأصليين.
- فرض الاستسلام التام على الشعب الفلسطيني وعلى جميع شعوب المنطقة، بما يسمى "التطبيع"، وذلك عن طريق إبرام اتفاقيات استسلام وتبادل خدمات مع الأنظمة الحاكمة، دون اعتبار لهذه الشعوب التي يُفترض أنها ستمل وتنسى، وأن الأجيال الجديدة ستكون لها رؤى وأولويات مختلفة عن جيل الآباء والأجداد.
- التأكد المتواصل من عدم صعود قوة إقليمية تهدد السيطرة المطلقة لإسرائيل على المنطقة، سواء كانت عربية أو غير عربية، والعمل الدائم على إضعاف هذه الدول، وإن أمكن تفتيتها وتمزيقها وزرع الفتن بينها.
- استعمال القوة في شكلها الفجّ لإرهاب الشعوب، وخاصة المحافظة على احتكار السلاح النووي إلى أن تنقرض كل إرادة مقاومة عند الشعب المستعمَر، وعند جميع الذين يمعنون في التحالف معه.
بتفحص هذه السياسات التي يسوق لها نتنياهو وجميع أفراد اليمين المتطرف تحت مسميات "اتفاقيات أبراهام" أو "الشرق الأوسط الجديد"، نكتشف -مرة أخرى باعتبار التاريخ الطويل- أن شروط نجاحها منعدمة هي الأخرى، وخاصة فيما يخص احتكار القوة العسكرية بصفة عامة، والسلاح النووي بصفة خاصة.
وأن يتصور المخططون الاستراتيجيون في إسرائيل وأميركا القدرة على منع الأمم الثلاث الكبرى في المنطقة: الأمة العربية، والأمة الإيرانية، والأمة التركية، من امتلاك السلاح النووي، وبقائها تحت رحمة شعب لا يتجاوز عدده سبعة ملايين شخص، فهذا قمة العمى الذي لا يزيده غباء إلا الغرق في النظريات العنصرية عن التفوق المستدام.
لقد أثبتت معركة "طوفان الأقصى" البطولية - وقبلها معركة العبور المظفرة سنة 1973 - سهولة تفويض هذه الغطرسة، وخداع جميع الذين يتوهمون أنفسهم أذكى من أنجبت الأرض.
لقد أثبتت هذه الأحداث الجسام قدرة المقاومة الفلسطينية الباسلة على تحقيق التفوق الاستخباراتي والصمود الأسطوري في ساحة القتال، أي تدارك الفجوة الصغيرة في القدرات التي مكنت الإسرائيليين من الانتصار حتى الآن.
وهذا ما سيجبر هؤلاء المخططين على مراجعة خوارزمياتهم العقيمة لتوسيع الفجوة التي ضاقت، ولكن عامل رفع التحدي سيلعب من جديد لرفع قدرات المقاومة الفلسطينية، وغدًا المقاومة العربية. وهكذا، من تأقلُم هذا الطرف، وإجابة الطرف الآخر، إلى لحظة تساوي القدرات أو انعكاس موازين القوى وتصفية الحسابات في آخر حرب تخوضها إسرائيل الباغية.
الآلية التي ستمكن الأمم الثلاث الكبرى من تدارك تأخرهم في المجال النووي هي التي ركز عليها المؤرخ الكبير توينبي: عامل التحدي.
هذا العامل النفسي بالذات هو الذي حول أحفاد المرابين والتجار إلى جنود قساة لا يرحمون، يبثون الرعب في قلوب أعدائهم، وهو أيضًا نفس العامل الذي يحول أحفاد الفلاحين الفقراء المعدمين إلى أبطال مقاومة باسلة تدوم منذ قرن كامل.
وهو الذي سيكسر، سواء طال الزمن أو قصر، سلمًا أو حربًا، توهم إسرائيل الغاشمة بأن بمقدور دولة صغيرة طارئة على المنطقة إخضاع أمم تاريخية كبرى نهضت أكثر من مرة من كل كبوة، وما زال في جعبتها إمكانات هائلة لم تُستغل حتى الآن.
أخيرًا وليس آخرًا، الطامة الكبرى بالنسبة للمشروع الصهيوني هي أن الرفض لهذا المشروع الاستعماري يتفاقم جيلًا بعد جيل، ويتوسع ويتعمق لدى مئات الملايين من العرب والمسلمين. فإذا كان للإسرائيليين ألف سبب لكيلا يغفروا للفلسطينيين أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن للفلسطينيين والعرب مليون سبب لكيلا يغفروا للإسرائيليين ما ارتكبوه من جرائم بشعة، خاصة في السنتين الأخيرتين.
(6)
قد يقول قائل، إذن الآن يمكن أن نتنفس الصعداء، والسؤال لم يعد "هل ستزول إسرائيل أم لا؟"، وإنما "متى سيحدث ذلك؟".
مرة أخرى مهلًا، فالتاريخ ليس رهنًا بأهوائنا ومصالحنا، وليس في خدمة الخير والحق بالضرورة، واسألوا الهنود الحمر عما فعلته عدالة قضيتهم.
إذا كان على العقلاء الإسرائيليين وأصدقائهم الحقيقيين التفكير المعمق في ثمن مواصلة حل نتنياهو الأحمق، فإن على العقلاء العرب وأصدقائهم الحقيقيين التفكير مليًا في تكلفة الرهان على سياسة "رمي اليهود في البحر".
يجب أن يتساءلوا في البداية عن مواقع القوة في الكيان الاستعماري، مع أخذ منظور التاريخ الطويل في الحسبان.
إن قوة إسرائيل ليست في سلاحها الفتاك الذي يمكن أن نضاهيه في نهاية المطاف، ولا في جيشها "الذي لا يُقهر" والذي قهره أبطال غزة الأشاوس، ولكن في كونها دولة قانون ومؤسسات قوية تسهر على مصالح شعب من المواطنين، أي دولة على درجة عالية من الكفاءة والفعالية، وشعب على درجة عالية من البذل والعطاء والتضحية. دولة كهذه قادرة على أن تهزم، لعقود كثيرة قادمة، دول استبداد وفساد وسوء استعمال للموارد، وأولها المورد البشري الذي جعلت منه شعبًا كسِيحًا، وشعبًا من الرعايا الأذلاء الخانعين.
هل كنا نشاهد هذه المهزلة المروعة من موت أطفالنا جوعًا في غزة، لو كانت المظاهرات اليومية تخرج في شوارع مدننا احتجاجًا على سياسات حكوماتنا الجائرة، كما فعل الإسرائيليون على امتداد سنتين كاملتين يوميًا في شوارع تل أبيب والقدس؟
ما دمنا شعوبًا من الرعايا تتحكم فيها دول تسيّرها الأجهزة الاستخباراتية القمعية، فإن إسرائيل ستكون في مأمن لوقت طويل من أي تهديد حقيقي وجودي.
هذا ما فهمته جيدًا النخب الذكية التي تقود هذه المستعمرة، فتصدت بقوة للربيع العربي. فمن يعرف أحسن من هذه النخب أن العالم العربي إذا انطلق في مسار ناجح لبناء دول قانون ومؤسسات في خدمة شعوب من المواطنين الأحرار، وقادرة على التنسيق فيما بينها لحماية الأمن القومي العربي، فإن ذلك سيكون بداية النهاية للمشروع الصهيوني برمته.
لاستشراف المستقبل بموضوعية، علينا أيضًا فهم درجة الخطورة في هذا الاحتلال الشرس الذي لم تشهده الأمة العربية منذ الغزو المغولي والفرنجي.
هناك أربعة عوامل خطورة يجب دراستها بدقة وأخذها دومًا في الحسبان:
- العامل الديموغرافي: إذا كان تغيير الأجيال في أوروبا وأميركا وفي وطننا العربي يلعب لصالحنا، فإنه يلعب ضدنا في إسرائيل، فنسبة المتدينين المتطرفين اليوم هي 14%، ولكن الخصوبة العالية عندهم سترفع هذه النسبة إلى 25% بحلول عام 2050، أي أن عددهم سيمر من 1.2 مليون إلى 3.2 ملايين نسمة. أضف إلى هذا أنهم لا يهاجرون إلى الخارج، خلافًا لليهود العلمانيين، مما يعني أن هذه الشريحة الأكثر تطرفًا والمتزايدة عددًا وتأثيرًا هي التي ستتحكم في الخيارات السياسية الكبرى، ومن أهمها التهام الضفة الغربية بالكامل ومنع أي سلام ممكن، وحتى أي تطبيع مقنع.
- العامل السياسي وأساسًا النظام الانتخابي الكارثي الذي يعطي، تحت ذريعة التمثيلية للأقليات المتطرفة، وزنًا أكبر من وزنها الحقيقي في الشارع، وذلك عبر لعبة التحالفات والابتزاز للأحزاب الكبرى العاجزة عن إيجاد الأغلبية الكافية للحكم. مما يعني أن ظاهرة تحكم بن غفير وسموتريتش في القرار الإسرائيلي، والتي تدفع نحو المزيد من العنف والحروب، ستكون في المستقبل القاعدة لا الاستثناء.
- العامل الأيديولوجي: يجب إمعان النظر لمعرفة الفضاء الخيالي الرمزي الروحي الذي يعيش فيه هؤلاء المتطرفون، من أفكار عن رب خاص بهم اصطفاهم من بين جميع شعوب الأرض، ومنحهم أرضًا لا حق لغيرهم فيها، وكيف أن لهم الحق في قتل العماليق رضعًا وشيوخًا وحتى حيواناتهم، وأن البطل شمشون انتقم ممن عذبوه بإسقاط جدران المعبد فوق رأسه ورؤوسهم.
- العامل النفسي وأسميه لعنة فرويد. إنه شبه قانون استنبطه المحلل النفسي الشهير: أنت لا تحارب عدوًا زمنًا طويلاً دون أن تنتهي بمشابهته. هذا القانون هو الذي يعطينا اليوم عنصريين يهودًا ردوا على العنصرية الغربية بأسوأ منها. هذا القانون هو الذي يفسر لماذا وصف وزير الحرب الإسرائيلي (Gallant) الفلسطينيين بأنهم "حيوانات آدمية"، وهو ما يذكرنا بمقولة (Himmler) وزير دعاية النظام النازي عن اليهود بأنهم (Untermenschen)؛ أي ما دون الإنسان. كذلك نفهم عشق الإسرائيليين للحروب الخاطفة على طريقة الألمان في الحرب العالمية الثانية، وإيمانهم بأن كل مشكلة لا تحلها القوة، تحلها قوة أكبر.
أمزج هذه العوامل الأربعة الخطيرة بوجود سلاح نووي جاهز للاستعمال، والنتيجة الأكثر احتمالًا هي النهاية المأساوية، أي الهولوكوست النووي الشامل الذي تُسقط فيه شخصية شمشون التوراتية جدران المعبد، أي كل الشرق الأوسط، على رأس ساكنيه من ملايين اليهود والمسلمين والمسيحيين.
إذن، ما هو الحل بعد الكف عن الجري مع المخادعين والمخدوعين وراء وهم تقادم عهده؟
(7)
بالعودة إلى نماذج الاستعمار الأوروبي ومدى نجاحها على المدى الطويل، نجد أن أقلها تكلفة إنسانية هو النموذج الجنوب أفريقي. فقد استقر المستعمرون البيض في أرض ليست أرضهم منذ أربعة قرون، ولم يبيدوا سكانها الأصليين، لا لنبل منهم أو لرغبة في تطبيق قيم إنسانية لم يظهرها بنو عمومتهم في تعاملهم الوحشي مع السكان الأصليين في أميركا وأستراليا، وإنما لاستحالة تحقيق ذلك.
وهذا ما أدى بهم، بعد حروب طويلة ومريرة، إلى إبرام اتفاق فريد من نوعه في تاريخ الاستعمار، أي بناء دولة مشتركة مع السكان الأصليين، الذين قبلوا بحل لم يكن عادلاً تمامًا، ولكنه كان يوفر على الجميع حروبًا لا نهاية لها وآلامًا عبثية، مع ضمان الكثير من حقوقهم السياسية والفردية. وهذا ما أسميه "حل مانديلا".
السؤال المطروح بإلحاح ليس "هل يمكن اللجوء إلى نفس الحل في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أم لا؟"، وإنما "كيف نفعل ذلك لفرضه على الطرفين، باعتباره البديل الوحيد للحرب الأزلية، ونهايتها، لا قدر الله، هولوكوست نووي يودي بحياة عشرات الملايين؟".